تشتد حاجة الناس إلى الظل، خصوصاً إذا اشتد عليهم وهج الشمس، فإن الظل يكون له طعمه الخاص، لكن أحوج هذا سيكون يوم القيامة، يوم يقف الناس بين يدي رب العالمين لفصل القضاء، وللمحاسبة، ووقوفهم يكون في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ويكون ارتفاع الشمس من رؤوس الخلائق كما نطق به الصادق المصدوق، مقدار ميل. وعرق الناس يكون بحسب أعمالهم، إنهم أحوج ما يكونون إلى ظل يستظلون به.
فإذا كان ابن آدم لا يتحمل قليلاً من الحر لبضع دقائق، فيكف به بيوم طوله خمسين ألف سنة، وارتفاع الشمس عن رأسه قدر ميل؟! ولهذا عد المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، سبعة أصناف من الناس سيظلهم المولى جل وتعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم قال-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه"(متفق عليه)، فأين أنت من هؤلاء الأصناف يا عبد الله؟! يا ترى تحت أي صنف منهم تكون؟!
فإذا حشَر اللَّه تعالى الناس يوم القيامة، واشتد الكرب، وكَثُر العَرَقُ، اقتربت الشمس من رءوس العباد، فإن هذه الأعمال الفاضلة تظل صاحبها في هذا الموقف العصيب. وما أحوجنا جميعًا، إلى أن نستظل في ظل الرحمن، في يوم عصيب يعظم فيه الخطب، ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. رُحماك يا رب، عفوك يا الله.
ومن أول هذه الأصناف نجاة من الحر واستظلال بظلال العرش: الإمام العادل والحاكم الصالح، وما أحوج الأمة المسلمة في كل عصر وفي كل مصر، إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئًا من أمور المسلمين فعدل فيه.
الإمام العادل، هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية، والرعية أبناؤه، يعلّم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفًا حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قويًّا حتى يأخذ الحق له.
وإن تحقيق العدل، أمام الرغبات، والمصالح والأهواء، أمر في غاية الصعوبة؛ إذ حلاوته مرة، وسهولته صعبة، وحينما يستطيع المرء تخطي تلك العقبات، كان معنى ذلك، أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقًّا لأن يكون واحدًا من هؤلاء السبعة.
والإمام العادل: هو من عدل في رعيته، وحكم فيهم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا أجره عند الله عظيم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا" (صحيح مسلم).
ولقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فأرسل إلى الحسن البصري، أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وهو كالراعي الشفيق على إبله، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويُكِنّها من أذى الحر والقر، وهو كالأم الشفيقة، والبرة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده . اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك".
وإن ولاة أمور المسلمين حق عليهم أن يقيموا العدل في الناس. حتى يعم العدل ربوع الأرض، بدلاً من الاستبداد وقهر العباد، وقتل الأبرياء، وسفك الدماء، ما أجمل أن يعم الأرض حكم كله عدل ورحمة، في خفض الجناح ولين الجانب، وقوة الحق، عدلٌ ومساواة تكون فيه المسؤوليات والولايات والأعمال والمهمات تكليفًا قبل أن تكون تشريفًا، وتبعات لا شهوات، ومغارم لا مغانم، وجهادًا لا إخلادًا، وتضحيةً لا تحليةً، وميدانًا لا ديوانًا، وأعمالاً لا أقوالاً، وإيثارًا لا استئثارًا. إنصافٌ للمظلوم، ونصرة للمهضوم، وقهرٌ للغشوم، وردع للظلوم، رفع المظالم عن كواهل المقروحة أكبادهم، ورد الاعتبار لمن أذلهم البغي اللئيم، لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تعويق واهم، وإن حدًا يقام في الله خير من أن يمطروا أربعين صباحًا.
وفي مثل هذا الحاكم العادل صح الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال" (أخرجه مسلم).
هذا الإمام العادل هو الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يظلم عنده أحد، ولا يحابي أو يجامل في الحق أحداً، ولو كان من أعز الخلق عليه، وأحبهم إليه، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف قوياً حتى يأخذ الحق له، لا فرق عنده بين قريب وبعيد، وسيد ومسود، في معاملتهم بالحسنى، والرفق بهم، والإحسان إليهم.
قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد أن صار خليفة للمسلمين: "أيها الناس! قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقدّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله - تعالى-، لا يدع منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم".
والإمام العادل هو الذي يعتبر رعيته كأبنائه فيما لهم من العطف والحنان، والتربية الصالحة، فيعلم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويربي صغيرهم، ويعالج مريضهم، ويكرم حاضرهم، ويحفظ غائبهم في أهله وماله، لأن ذلك من أداء الأمانة كما قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].
أما إذا أساء الحاكم وظلم فقد تُوُعِّد بوعيد شديد، فعن أبي يعلى مَعْقِل بن يَسَار -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة". وفي رواية: " لم يَحُطْها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة".
إنه لن يُظِلّ الله يوم القيامة بظل عرشه إماماً مستبداً، أو ملكاً جباراً، أو أميراً جائراً، يتسلط بجبروته على المسلمين، فيذل من أعزه الله، أو يعز من أذله الله.
إن غاية العباد حكامًا كانوا أو محكومين الاستقامة على أوامر الشريعة، فهذا غاية العبد المؤمن ومراده، وله ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة، فالخوف من الله وخشيته عبادة عظيمة، ضعفت في حياة كثير من المسلمين إلا من رحم الله, غابت في تعاملنا مع ربنا, في تعاملنا مع أنفسنا, في تعاملنا مع الناس، في بيعنا وشرائنا, في تربيتنا لأبنائنا, في أدائنا لوظائفنا, في تعاملنا مع الأجراء والخدم.. والموفق من وفقه الله لخشيته وتقواه.
منقول
ملتقي الخطباء
إرسال تعليق