ذكرُ الإنْسَانِ فِيْ آيِ القُرْآنْ
ذكرُ الإنْسَانِ فِيْ آيِ القُرْآنْ
Post
ذكرُ الإنْسَانِ فِيْ آيِ القُرْآنْ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمدٍ النبي الأمين وآله الطيبين
الطاهرين وصحابته المتقين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين وبعد
فقد أكرمني
الله جل وعلا بأن يسر لي الالتقاء بالشيخ الكريم الدكتور محمد بن علي
الشنقيطي حفظه الله ونفع بعلمه فتجاذبنا الحديث حول مفردات القرآن الكريم
ومفاهيمها فألقى بين يدي هذا المبحث اللطيف عن ذكر مفردة “الإنسان” في
القرآن الكريم واستعمالاتها في مواضعها المختلفة فاندفعت لذلك البحث بشغف
أتلمس وجه البلاغة والبيان في استعمالات هذه المفردة في كتاب الله فأرجو من
الله أن أكون قد وفقت في استجلاء بعض ما يحيط بهذا المطلب .
مجال البحث:
وجدت أن من
الأولى البحث عن كل المفردات التي تشير إلى بني آدم في القرآن (الإنس ،
الناس ، الإنْسَانْ ، البشر ، بني آدم) فهذه التسميات الشائعة في كتاب الله
لنسل آدم عليه السلام ولكن استعمالاتها مختلفة في كتاب الله تبعاً للسياق
فباستقراء كل مفردة نتبين الظروف التي تحكم استخدام المفردة ولكني آثرت هنا
أن اقتصر على التفصيل في مفردة (الإنسان) و (الإنس) دون سواهما ، ولعلنا
في باب آخر نتمكن من التوسع ومقارنة كل مفردة من المفردات المذكورة.
إحصاء مفردتي الإنسان والإنس:
إحصاء تلك المفردات في القرآن الكريم
يرينا صورة عامة لحجم استخدام كل مفردة ولهذا حرصت على أن أبدأ في تتبع عدد
مرات استعمال كل مفردة في القرآن الكريم فكانت النتيجة كالتالي:
الإنْسَانْ : ذكرت في كتاب الله 56 ستٌ وخمسون مرة.
الإنس : ذكرت في كتاب الله 14 أربعة عشر مرة.
وبذلك يكون المجموع 70 مرة لكلا المفردتين
استخدامات مفردة “الإنسان في القرآن الكريم
-(الإنْسَانْ) :
ويُجمع في مفردة ( الْإنْسْ) فالارتباط المعنوي بين تلك المفردتين (الإنْسَانْ ، الإنس)
ومفردة الإنْسَانْ يقصد بها في كتاب الله : كل مخلوق من سلالة آدم عليه
السلام ، وهي مفردة ذات دلالة شاملة لكل جنس ذكراً كان أم أنثى ، مؤمناً
كان أو غير مؤمن ، ولم أرى أن هناك ارتباط مباشر بين مفردة (الناس) ومفردة
(الإنسان) كما يقول بعض أهل اللغة فإن القرآن إنما اتفق فيه معنى الإنس
والإنْسَانْ ولم يتفق فيه معنى النَّاس معهما وسيأتي تفصيل ذلك وإثباته في ثنايا ما سأعرضه بإذن الله.
ثبت بجلاء أن مفردة (الإنسان)
عندما تذكر في كتاب الله فإنها تستعمل في سياق بيان الضعف في جانبين في
مادة خلق ابن آدم وضعف نفسه وارتبط ذكر الإنسان بالنقص والجهل وكل سلوك
مقيت يقترفه هذا المخلوق ، فكانت مفردة الإنسان مرادفة جامعة من جوامع الشر
، فيقترن مع ما يظهر منه من سوء وما يحيط به من حقارة وضعف وجهل وكذلك جمع
(إنسان) وهو (الإنس) فلم تذكر في سياق إلا في سياق كسياق مفردة (الإنسان)
، ونصنف ذكر الإنسان على ضربين لا ثالث لهما ، أولهما بيان ضعف وهوان مادة
الخلق ، وثانيهما ضعف نفسه وسوء طويته وركونه لشهواته ، وبالتالي فلدينا
محورين للبحث أولهما “دلالة ضعف الجسد وحقارة مادة الخلق” ، والثاني “دلالة
ضعف النفس وسوء الطوية” وسنبدأ في تصنيف الآيات القرآنية الدالة على ذلك
بمشيئة الله.
أولاً : أمثلة على دلالة ضعف الجسد وحقارة مادة الخلق وهوانه على الله:
-
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانْ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } [الحجر:26]
وهنا يبين لنا الله جل وعلا حقارة مادة صنع الإنْسَانْ التي دفعت إبليس أن يتكبر عن السجود لهذا المخلوق .
-
{ خَلَقَ الإنْسَانْ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } [النحل:4]
وهنا يبرز الله مرحلة أخرى من المراحل الضعيفة الحقيرة من خلق الإنْسَانْ وهو النطفة التي التي لا تكاد تذكر لحقارتها ودناءتها.
-
{ أَوَلَا يَذْكُرُ الإنْسَانْ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } [مريم:67]
ويذكر الله بأنه خلقه من لا شيء في صورة من صور التقريع واللوم والتذكير بأصل خلقته.
-
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانْ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } [المؤمنون:12]
فيبين أصل خلقة الإنْسَانْ ويعلمه بهوان أصله وحقارة منشأه وكيف حوله لمخلوق مكرم حسن المظهر والخلقة.
-
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانْ مِنْ طِينٍ } [السجدة:7]
وهنا إظهار حسن الخلق وتمامه الذي بدأ بأهون مادة في الأرض.
-
{ أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانْ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } [يس:77]
وأيضاً يشير البارئ المصور إلى النطفة
الحقيرة التي استحالت خصام وهو لا يعي مبدأ خلقه وحقارة أصله فماذا كان
أصله وإلى أين أضحى بعد ما كان.
-
{ خَلَقَ الإنْسَانْ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } [الرحمن:14]
وتستمر وتتوالى إشارات أصل خلق الإنْسَانْ من صلصال ومن طين ومن نطفة وارتباط تلك الإشارات والدلالات بمفردة الإنسان.
-
{ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانْ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } [الإنسان:1]
ويعود ذكر أصل خلقة الإنْسَانْ إلى ما قبل النطفة والعلقة حين كان في صلب آباءه لا ذكر له ولا اسم يسمى به.
-
{ إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانْ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [الإنسان:2]
فخلق له السمع والبصر بعد أن كان نطفة أمشاج.
-
{ فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانْ إِلَى طَعَامِهِ } [عبس:24]
والنظر هنا يقود للدلالة على ضعف
الإنْسَانْ وقصور قدرته أن ينبت طعامه أو يخلق ما يقيم حياته لولا أن الله
هيأ رزقه وسخر له ما يغذيه ويقيم جسده.
-
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين:4]
ويعزو ربنا جلت قدرته تحويل وتقويم هذه
المادة الحقيرة إلى نفسه جل وعلا لتصبح بعد تقويمها خلق حسن وصورة متناسقة
وإذا واصلنا النظر في السياق نجد (ثم رددناه أسفل سافلين) .
-
{ فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانْ مِمَّ خُلِقَ } [الطارق:5]
ويحث ربنا جلت قدرته الإنْسَانْ على
النظر في أصل خلقته ليعلم قدره الحقيقي وأنه لولا كرامة الله له فهو لا
يعدو كونه مادة حقيرة وضيعة.
وهكذا ففي ما سلف من مواضع نجد ارتباط ذكر مفردة الإنْسَانْ مرتبطةٌ بخلقهِ وقد ارتبطت مفردة (الخلق) بمفردة (الإنسان) في كل ستة عشر موضع في كتاب الله ، سوى المواضع التي أشار فيها ربنا جل وعلا لخلق الإنسان بمفردات ومعانٍ أخرى.
ثانيا : مفردة الإنْسَانْ للدلالة على ضعف نفسه وسوء طويته وركونه لشهواته:
وقد جمع ربنا جل وعلا في هذه الآيات وقرن مفردة الإنْسَانْ بأكثر الصفات سوءاً فاقترن الإنْسَانْ بالصفات التالية (
اليأس ، الكفر ، الإسراف في الذنب ، الظلم ، الخصام ، العجلة ، البخل
والتقتير ، الجدال ، الجهل ، القنوط ، الإعراض ، الهلع والخوف ، ارتكاب
الذنب، الطغيان ، الخسران ، الجحود) فارتبط كل خلق ذميم بمفردة الإنْسَانْ
بل أتى معظمها بصيغة المبالغة (قنوط ، كفور ، قتور ، هلوع ، ظلوم) وكان
للكفر النصيب الأكبر فارتبط الإنْسَانْ بالكفر بصيغه المختلفة في ثمانية
مواضع ، وارتبط باليأس ثلاث مرات وهناك من الصفات السيئة ما ذكر أكثر من
مرة كالجدل والظلم والآيات التي لم يرد فيها الذم للإنسان صراحة فقد ذمته
ضمناً.
والآيات التي ذمت الإنسان وكفره وسوء رابطته مع ربه هي :
-
{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانْ ضَعِيفًا } [النساء:28]
فيبين الله
جل وعلا مدى ضعف الإنْسَانْ ومراده جل وعلا بالتخفيف في التشريع مراعاة لما
يكتنف خلق الإنْسَانْ من ضعف في نفسه قد يميل به إلى اقتراف الآثام بحثاً
عن الشهوات.
-
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ
الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا
كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ
كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [يونس:12]
وهذه صورة من صور جحود الإنسان لربه
ونسيانه لفضله عليه ، فإذا أصيب بالضر فزع للدعاء والتضرع فما أن يجيب الله
دعاءه ويكفيه ويكشف ما به حتى نسي ما كان منه من تذلل وضعف وشكوى.
-
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [هود:9]
وهذه صورة
بشعة من صور اليأس المقترن بالكفر فعندما ينزع الله صحة أو مال من ابن آدم
(الإنسان) فهو يئوس من عودتها إليه بمعنى مصرُّ على اليأس يظهره دوماً في
سره وعلانيته مظهراً التذمر المستمر والمتكرر ونسيان ما كان من سابقاً من
يدٍ ونعمٍ أكرمه الله بها.
وهكذا في ما يلي من آيات ذكر فيها الإنسان وذكر معه سوء طويته وخسة نفسه :
-
{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم:34]
فهو ظالم لنفسه كافر بنعم الله عليه برغم أنه جل جلاله يُسأل ويعطي بلا عدد ولا حصر.
-
{ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا } [الإسراء:11]
فالإنسان لا
يدرك خطورة الدعاء بالشر وتبعات إجابته فيدعو متضرعاً بحدوث الشر كما
يتضرع ويخلص في الطلب بحدوث الخير غير مدرك لما سيتبع إجابة ذلك الدعاء.
-
{ وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء:67]
من صور جحود الإنسان لفضل الله عليه
ونسيان حاله عند رؤية هول الهلاك وتضرعه لله حتى إذا نجاه أعرض وعصى وقسي
قلبه على ربه الذي كان به رؤوفاً رحيماً والإعراض بعد رؤية هذا الهول من
أعظم صور الجحود والاستكبار والكفر.
-
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا } [الإسراء:83]
وفي هذه الآية صورة أخرى من فساد نفس
الإنسان وسوء طويته فقدم تعالى حاله عند الإنعام وكيف أنه يعرض غير مستحضر
لما أفضل الله عليه من خير ، وحين وقوع الشر عليه يئس متناسياً جاحداً بأن
من بدأه بالنعم سبحانه قادر على كشف ما به من ضر.
-
{ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا } [الإسراء:100]
يخبرنا جل
وعلا عن الخصلة السيئة والصفة الذميمة في الإنسان وهي البخل والإمساك فلو
كان يملك الإنفاق من خزائن الله التي لا تعلم ولا تعد ولا تنفد فإنه سيتردد
في الإنفاق وتغلب صفة البخل والتقتير عليه ، فليحمد الناس ربهم أنه الكريم
العظيم ، الحليم العليم لم يجعل خزائنه إلا بيده وحده سبحانه.
-
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } [الكهف:54]
فعندما يكون
ابن آدم في لبوس الإنسان فهو مجادل لا يكفيه ما ساق ربه من أمثلة وحكمة
وفرقان وحجة بالغة ولا يزال يجادل حتى ولو رأى الحق رأي العين.
-
{ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } [مريم:66]
وهذه صورة من صور كفر الإنسان بالبعث إذ
يسأل سؤالا استنكارياً إنكارياً جحوداً واستهزاءً بحقيقة البعث لما أُشرب
في نفسه من صفاقة وسوء أدب مع خالقه جلت قدرته
-
{ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ } [الحج:66]
وهي صيغة
المبالغة والكثرة في الكفر مع لام التوكيد أي أنه برغم تعدد الأفعال
الربانية بين الإماتة والإحياء فإن الإنسان بصبغته (الإنسانية) لكفور بربه
وبقدرته وفعله الظاهر المعلوم ولكن لا ينطبق على ابن آدم المؤمن الطائع
المطمئن قلبه بالإيمان
12{
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب:72]
فقد اختصه
–الإنسان- الله بالأمانة (الإرادة والتكليف) وجعله مخيراً في فعله تفضيلاً
على سواه من المخلوقات وأعظمها السموات والأرض والجبال ولكنه كان ظلوماً
لنفسه حين فرط في اختيار الخير واستبدله بالشر ، وجهولاً بما يجر عليه ذلك
الفعل من عاقبة وبما أضاع بتفريطه من رفعة وثواب وفي ما سوى الإنسان من بني
آدم من المؤمنين فلا ينطبق عليهم هذا النعت بالظلم والجهل ، وهذه الآية
تنطوي على معانٍ عميقة قل أن يحاط بها وتفهم ولعلي إن شاء الله آتي عليها
في مواضع
أخرى.
-
{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } [النحل:4]
وهنا يجمع
الله جل وعلا للإنسان بين حقارة مادة خلقه وسوء طويته ونفسه في صورة بديعة
إذ كان نطفة حقيرة قذرة خلقه الله منها وتفضل عليه وأكرمه ورزقه فيبادل ربه
ويبارزه بالخصام والعداوة يبيْنُ عنها بلسانه الذي لم يكن شيئاً حين كان
نطفة حقيرة ، ولم يتفكر مما خلق وكيف كان ومن أوجده ورزقه وجعل منه مخلوقاً
حسن الخلق ناطق مفكر كاسب للرزق بما قدره الله له من مهارة وفطرة.
-
{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } [يس:77]
وهذه صورة أخرى شبيهة بما سبق تبدأ بالاستفهام الاستنكاري وهي متسقة مع السياق الذي يسبقها ويليها .
-
{ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ
ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا
أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر:49]
يدعو الإنسان عند حلول المصيبة ومجرد
المس من الضر فإذا أعطاه الله من عطاءه وأكرمه من كرمه نسب ما حصل إليه
لنفسه والعلم الذي تعلمه وهي صورة من صور الجحود الكفر الذي يقترفه الإنسان
بحق ربه والظلم الذي يوقعه على نفسه.
-
{ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } [فصلت:49]
فمهما تتابع
عليه النعم فإنه لا يكتفي من الدعاء وطلب المزيد من الخير ولكنه إن أصيب
بالشر مرة يئس وقنط من رحمة الله ونسي أن نعم الله كانت تتابع عليه وتتوالى
إليه قبل هذا الشرّ ، ولو كان يخفي خلفه خيراً لا يتحصل إلا بذلك الشر.
-
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } [فصلت:51]
وهذه صورة
من صور اللؤم والجحود عند الإنسان فهو لا يتذكر ربه المنعم عليه عند حلول
النعماء ولكن حين مساس الشر به يسهب في الدعاء والتضرع
-
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } [الشورى:48]
فهو فرح
بالرحمة ظناً أنها رضى من الله والله لا يحب الفرحين ، وإن أصابته السيئة
بسوءه وبما قدمت يده كان كفوراً بيد الله إليه ونعمته عليه.
-
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } [الزخرف:15]
وهو قولهم
بأن الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك ، وقيل من عباده جزءاً أي
معادلاً له تعالى سبحانه ، فكان هذا القول الشنيع يصدر من الإنسان فهو كفور
جاحد لتفرد الله ووحدانيته ، ومبين لكفره بقوله البيِّن الواضح الذي ينبئ
عن اعتقاده الفاسد هذا.
-
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) [المعارج]
فالهلع من
الصفات النفسية التي وجدت مع خلق آدم ويعني الخوف والجزع الشديد ، فهو في
حال أصابه الشرّ والسوء كان جزعاً خائفاً منه مفتقداً للثقة برحمة الله
لقلة إيمانه وطغيان سوء نفسه على ثقته بربه ، وإذا أصابه خير من الله كان
جزعاً خائفاً أيضاً من فقدان هذا المال فيشح به خشيةً من نفاده وغيَّب عن
قلبه أن ما أصابه من خير إنما هو بيد الله ومن آتاك خيراته قدير أن يتابع
عليك النعم ، وإن أصابه سوء فالسوء أمر نسبيّ قد يحمل في طياته الخير.
-
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ (15) [القيامة]
وهذه الآيات
الكريمة من سورة القيامة تمثل صورة دقيقة على وسوء طوية الإنسان إذ ينكر
البعث فيؤكد ربنا جلت قدرته أنه لن يجمع عظامه فحسب بل تتعدى قدرته عز وجل
أن يحيل تراب تلك العظام لإنسان حي حتى يصل لأطراف أصابعه فيخلقها بدقة
مطلقة وقدرة عظيمة ، ثم إن الإنسان حال البعث والجمع يبحث عن مكان يلجأ
إليه فراراً وهرباً من العقاب ونسي بسوء طويته أنه لا وزر ولا مهرب ولا مفر
فأي مفر وملجأ وقد أعاده الله من تراب ؟
-
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ [عبس]
وهنا (قُتِلَ) بصيغة لعن ، (مَا أَكْفَرَهُ)صيغة
مبالغة وإكثار بمعنى ما أشد كفره وأكثره ، ثم كما اعتدنا عند ذكر الإنسان
بهذه التسمية يسوق ربنا صور حقارة مادة الصنع وكيف أحالها الله بقدرته لهذا
الخلق الدقيق العظيم الذي يتعالى به على ربه في حين أن أصله نطفة حقيرة.
-
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ
مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) [الإنفطار]
وهنا يخاطب
الكافر بنبز “الإنسان” ما أغواك وحَرَفَكَ عن عبادة ربك الكريم ؟ وهو جل
وعلا أعلم بأن طاعته للشيطان ولنفسه الأمارة وراء كفره ، ثم يذكره بكينونته
وكيف كان أن الله خلقه وسواه وعدل خلقته.
-
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
(الكدح) هو
العمل السيئ والآية صورة من صور الوعيد ، وفي معناها الخاص قال فيه ابن
عباس : هو أبي بن خلف ، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول
عليه السلام ، والإصرار على الكفر . وفي معناه العام ومن سياق السورة هو كل
عمل الدنيا ما اختلط من العمل بسوء أو كان عمل سوء فأما المؤمن فيحاسب على
هذا الكدح (العمل السيئ) بيسر فيتجاوز عن هذه السيئات ، وأما الكافر فيؤتى
كتابه وراء ظهره ويكون حسابه على كدحه عسير لا تجاوز فيه و مصيره إلى نار
السعير ، أما العمل الصالح فهو من يشفع للعامل الكادح فيتيسر حسابه عن سواه
.
-
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) [الفجر]
(ابتلاه) أي
اختبره بعطائه ونعمته فهو يعتقد أن ذلك رضا من الله عن سوء عمله ، فيقول
أكرمنِي ربي فهو راضٍ عني وإن كان عمله عمل سوء ، وإذا اختبره بضيق رزق
اعتقد أن عمله ليس مرضياً عند الله ، فيظن أن اللهَ هوَّن عبدهُ وإن كانَ
عملهُ عمل خير ، ثم يصف هول الموقف العظيم وكيف أن الإنسان لا تنفعه الذكرى
في ذلك الموقف ولا تمني العودة للدنيا إذ يعذَّب عذابا عظيماً ويوثق
وثاقاً شديداً.
-
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) [البلد]
إن استقراء
مفردة الإنسان عندما يترافق مع قراءة السياق يظهر بجلاء ما ذهبنا إليه في
هذا البحث فهاهي الآيات المباركات من سورة البلد يلقي ربنا جلت قدرته اللوم
على كل إنسان خلقه من العدم ويحسب أنه بلغ من القوة مبلغاً لا يغلبه فيه
أحد ولا يقدر عليه (يضيق عليه الرزق) ثم يبين عناصر خلقه التي أصبح بوجودها
خلقاً مستقيماً منتصباً يحصل كسبه وماله وبدونها فهو لا شيء ، وفي وجه آخر
فإن (خلقنا الإنسان في كبد) صورة لضعف الخلقة إذ قال بعض المفسرين بأن
الكبد هو الدم المتجمع المتكبد ويحسب بعد كينونته تلك أنه لن يقدر عليه أحد
وهو خلق من ضعف وقذارة.
-
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8) [العلق]
وهنا يبين
ربنا جلت قدرته هوان خلق الإنسان وحقارة أصله ، وجهله لولا تعليم الله له ،
وطغيانه إن أفضل الله عليه بالرزق وأغناه من فاقة ثم يؤكد على رجوع هذا
الإنسان لربه فيحاسبه على ما أسرف فيه من سوء.
-
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) [الزلزلة]
جاء في
تفسير الطبري (كان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني ابن سنان القزاز ، قال :
ثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ( وقال الإنسان ما لها )
قال الكافر : ( يومئذ تحدث أخبارها ) وفي صحيح مسلم عن
عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن
عمرو بن العاص فقال عبد الله : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم
، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة : يا عقبة اسمع ما
يقول عبد الله : فقال عقبة : هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك . فقال عبد الله: أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفساً في قلبه حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة ، وعن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله ” ، وفي رواية : قال : ” لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله ” . رواه مسلم ، وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ” لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق
” . رواه مسلم ، وروى أبو يعلى في مسنده ، والحاكم في مستدركه عن أبي سعيد
مرفوعا : ( لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ) . وروى السجزي عن ابن عمر
رفعه : ( لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والقرآن ) .
فكانت الآية الكريمة من سورة الزلزلة
دلالة على أن الإنسان إشارة لشرار الخلق ممن تقوم عليهم الساعة ، ويسال
الإنسان عما لا يُسأل عنه فلو كان من المؤمنين لجار لله وامتلأ رعباً
وهلعاً من هذا الموقف العظيم ولكن جنس (الإنسان) ممن لا يؤمن يستنكر ويستفهم عما يحدث للأرض إذ زلزلت لأنه لم يستحضر قيام الساعة وعلاماتها.
-
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [العاديات]
( إن الإنسان لربه لكنود ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : ” لكنود ” : لكفور جحود لنعم الله تعالى . قال الكلبي : هو بلسان مضر وربيعة الكفور ، وبلسان كندة وحضرموت العاصي ، وقال الحسن : هو الذي يعد المصائب وينسى النعم
. وقال عطاء : هو الذي لا يعطي في النائبة مع قومه . أقول : هذا يكفي لفهم
استعمال مفردة الإنسان في هذا الموضع بأنه إشارة لسوء طويته وكفره وجحوده.
-
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر]
فتسمية
الإنسان لكل خاسر ولا يصح إطلاقها على المؤمنين من عملوا الصالحات
فاستثناهم الله من الخسران المقتصر على الإنسان فصار نبزاً للخاسرين من
البشر.
وهكذا
ارتبطت مفردة الإنسان بحقارة مادته وضعفها وحقارة نفسه وكفرها ، ومن حقارة
نفسه أن وصاه ربه جلت قدرته وتقدست أسماؤه بوالديه في حين أن غريزته تجبره
على الإحسان إليهما بغير وصية كما هي غريزة الحيوان مع أبويه ، ولكن
الإنسان بسوء طويته تتشرب نفسه العقوق والكفر بالمنعم ، فالكفر بالله أعظم
الكفر ، والعقوق صورة من صور الكفر التي تشيع بين بني الإنسان ، فلا عجب إن
كان كفر بخالقه فكيف بما هو دون ذلك ؟.
وتسمية
“الإنسان” ذاتها تعود للنسيان عمداً وسهواً ، فكفره نسيان فضل ربه عليه ،
ونسيان عاقبة ظلمه وطغيانه ، والإنسان ينسى إشارات ربه وتحذيره بما يصيبه
من شرور ، وينسى إنعام ربه وخيراته بما يغدق عليه من نعم فكانت مفردة
الإنسان جامعة لكل شرٍّ يقترفه فأتت هذه المفردة في القرآن الكريم لدلالتها
على ضعف خلقته وخُلُقه.
ولعلنا
نتعلم من ذلك ونتمثل به في استعمالنا لتلك المفردة ، فنلاحظ استعمال
المفردة في حياتنا على سبيل التكريم في أحايين كثيرة في الوقت الذي وجب أن
تتماهى خطاباتنا ومقالاتنا ونتاجنا الفكري مع القرآن الكريم فنوظف المفردة
بما يتفق مع التوظيف القرآني لها ، فتلامس الجانب السلبي إذا كانت في
القرآن الكريم كذلك ، وتلامس الجانب الإيجابي إذا كانت في القرآن كذلك.
ولا شك بأن
التوظيف القرآني العجيب لمفردات اللغة العربية صورة بلاغية بديعة لم تحظى
بالتحليل الكافي بل ونكاد نلحظ انفصال بين الخطاب الواقعي مع التوظيف
القرآني للمفردات ، ولا تسلم من سوء الاستعمال هذا حتى المصنفات الإسلامية.
وإن كنا
نعلم بداهة أن البلاغة هي من أعظم صور الإعجاز في القرآن الكريم فإننا
للأسف وإن حاولنا تقفي تلك الصور البلاغية إلا أننا لم نلحظ انعكاس ذلك على
الخطاب العربي و الإسلامي فأهملنا هذا الكنز الكبير واستبدلنا لغتنا
باللغة الفرنسية لكتابة القوانين متذرعين بدقة اللغة الفرنسية في صياغة
القوانين جهلا بما تحمله لغتنا الثرية من استعمالات متعددة ومتنوعة لمن
تعرف على ذلك الثراء من خلال القرآن الكريم.
-(الإنْس)
ومفردة
(الإنس) جمعٌ لمفردة (الإنسان) ودلالة ذلك توظيفها القرآني ، فكما استعملت
مفردة الإنسان جامعة لجوامع السوء والشر ومقترنة بالصورة السلبية للبشر فقد
استعملت مفردة (الإنس) بدلالة إلى (السوء الجمعي) ولم ترد مفردة (الإنس)
ما لم يذكر في نفس الآية مفردة (الجن) وسنتبع نفس المنهجية في تحليل مفردة
الإنسان فنقول وبالله التوفيق وعليه التوكل:
ذكرت مفردة (الإنس) أربعة عشر مرة في
كتاب الله ، لم ترد بمعزل على مفردة (الجن) إلا أن مفردة (الجن) أتت في
كتاب الله (22) اثنتان وعشرون مرة ومرتان بقوله (الجان) فكان إحصاء مفردة
الجن ، والجان (24) أربع وعشرون مرة بزيادة عشر مرات عن مفردة الإنس ،
والله أعلم بمدلولات تلك الزيادة وارتباطها بتفوق الجان على بني الإنسان في
بعض أوجه الخلق والقدرات التي حباهم الله بها .
ويتبين أن كل سياق ذكرت فيه مفردة (الإنس) أتت بنعت سوء ووعيد فلو تتبعنا الآيات التي احتوت على مفردة الإنس لوجدنا ما يلي:
-
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام:112]
فأسمى ربنا
(جلت قدرته) أعداء الأنبياء (الإنس) مع حلفائهم من الجن ووصفهم بالمفترين
إذ يوحي بعضهم إلى بعض قولاً يصدق فيه بعضهم بعضاً حربا على أنبياء الله
فيزينون لبعضهم البعض عملهم ، ويتنافسون في كل قول وفعل يحاربون به الله
وأنبياءه.
-
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي
أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام:128]
فكانت تسمية
أصحاب النار (الإنس) الذين تولوا الجن واستمتع بعضهم ببعض واستعانوا
ببعضهم البعض من دون الله وعبدوا بعضهم من دون الله وأشركوهم بالله في صورة
أصنام أو بإتيان السحر و بدعوة بعضهم بعض لمنهج الضلال والإضلال ونحو ذلك،
فكان ذكر سيء غير حميد للإنس.
-
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى
أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } [الأنعام:130]
فأسمى
الكفار يوم الحساب (الإنس) وهو يستنطقهم ويستشهدهم جلت قدرته في موقف يوم
القيامة حتى شهدوا على أنفسهم بكفرهم ، وهو ذات الموقف الذي جمع الله فيه
الفريقين في موقف واحد وقضى عليهم بجهنم خالدين فيها إلا ما شاء سبحانه
وتعالى.
وكذلك
الآيات التالية وظفت فيها مفردة (الإنس) لبيان لوصف كل أصحاب المنهج الفاسد
والكفار الذين انتهى بهم كفرهم هم وأوليائهم من الجن إلى جهنم وبئس المصير
إذ ركنوا إلى أنفسهم ولم يعلموا أن أجسادهم ضعيفة حقيرة الأصل والمنشأ
وأنفسهم كافرة خبيثة ضعيفة الصمود أمام الشهوات :
-
{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا
ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا
هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ
لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف:38]
فأثمر ضعف
نفوسهم أن خضعت بضعفها وهوانها وكفرها للضلال فكانت النار مثواهم جميعا لا
يفيدهم لعن بعضهم لبعض ولا ندمهم على إطاعة الكفار في كفرهم وانحرافهم.
-
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ
بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف:179]
وهنا نلحظ كيف أن (الإنسان) و(الإنس)
كانت قلوبهم وأعينهم وآذانهم تملكها أنفس ضعيفة ففقدت وظيفتها ووعيها
وانقادت للضلال والغفلة فكانوا من حطب جهنم والعياذ بالله.
-
{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء:88]
وهنا صورة من التحدي لجميع الإنس والجن
أن يأتوا بمثل هذا القرآن ويبقى التحدي قائماً حتى قيام الساعة دليلا
دامغاً على ضعف قدرة الإنسان ولو اجتمع مع نظراءه من الإنس والجن معاً
فقدرتهم تبقى قاصرة ضعيفة.
-
{ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل:17]
وهذه صورة من صور الضعف والهوان والتسخير
الذي أكرم الله به سليمان واخضع الإنس والجن بسوئهم وتمردهم ويتلقون الأمر
منه وينفذون رغماً عنهم.
وهكذا نشهد فيما يلي كيف أن مفردة
(الإنس) كانت لا تذكر إلا في سياق السوء والعذاب والإثم والكفر والخسران
فكانت مستحقة أن تكون هي صيغة الجمع لمفردة (الإنسان).
-
{ وَقَيَّضْنَا
لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [فصلت:25]
-
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } [فصلت:29]
-
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [الأحقاف:18]
-
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56]
-
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن:33]
-
{ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الجن:5]
-
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [الجن:6]
وهكذا فإن تسمية ابن آدم بالإنسان انما هو
نبز واسم جامع لجوامع الضعف والشر في آن واحد فالإنسان يؤوس ظلوم كفور
قنوط هلوع جزوع منوع عجول خصيم مجادل مبين مسرف كذاب قتور طاغٍ كنود ،
ونأتي بعد كل هذا لنستعمل تلك المفردة لتعبر عن كل معاني السمو والقيم
العالية وذا دلالة عميقة على الحب والخير والسلام وهو أبعد ما يكون عن هذه
المعاني فأي انفصال نعيشه بين واقعنا وبين قرآننا ؟ وكيف لنا أن نصحح هذا
المسار ونتنبه لخطورة هذا الإنحراف عن لغة القرآن متتبعين مصطلحات الغرب
بلا تمييز لما في ذلك من تعارض مع دستورنا الخالد كلام الأحد الواحد القرآن
الكريم.
وصل اللهم على محمد وآله وصحبه أجمعين
هل أعجبك الموضوع ؟
https://www.facebook.com/groups/725634620858603
https://www.facebook.com/groups/725634620858603
إرسال تعليق