-->
مدونة اجتهاد الاسلامية مدونة اجتهاد الاسلامية
random

موضوعات جميله

random
recent
جاري التحميل ...
recent

أَوْجُهُ البَيَانْ فِي كَلَامِ الرَّحْمَنْ ؟(الفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْوَفَاة وبَيْنَ الرُّوح وَ النَّفْس)

بسم الله الرحمن الرحيم
أَوْجُهُ البَيَانْ فِي كَلَامِ الرَّحْمَنْ (الفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْوَفَاة وبَيْنَ الرُّوح وَ النَّفْس)
1-      مقدمة:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيِنْ وَالصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أشْرفِ الأنْبياءِ وَالمُرْسليْن سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلى آلهِ وَصَحْبه أجْمَعِيْن.
في هذا البحث سأتطرق لأربع مفردات هامة في القاموس البشري ككل وفي المعجم الإسلامي على وجه الخصوص ولكني سأنظر إليه من الجانب القرآني لتلمس المفهوم الذي يجب الاصطلاح عليه في تعريف تلك المفردات الأربع وهي (الروح والنفس ، والموت والوفاة) ، ومن خلال بحثي الذي سبق هذا التدوين وجدت علمائنا الأجلاء رحمهم الله اختلفوا في مفهوم تلك المفردات وهناك الكثير منهم قال أن الموت هو الوفاة والوفاة هي الموت ، والنفس هي الروح والروح هي النفس ، والحقيقة أن هذا القول في ذاته غير صحيح في رأيي والجهل بالمعنى ليس بمسوغ كافٍ لضم كل تلك المفردات تحت معنى واحد في حين أن هذا لا ينبغي في كتاب الله فلم ينتقي ربنا جلت ذاته كلمات كتابه جزافاً ولم يدرج مفردة في موضع إلا لأنها الأكمل والأنسب والأصح ولا يحل محلها سواها ، فإن قال قائل أن المفردة كذا وكذا هما لا تختلفان عن بعضهما جاز لنا استبدال إحداهما مكان الأخرى وهذا باطل لا يشك في بطلانه فنعود بذلك للقول بخصوصية المفردات مهما تقاربت معانيها عَلِمَها مَن عَلِمها وجَهِلَهَا مَنْ جَهلها.
وكبقية مقالات هذه المدونة وأبحاثها سأبدأ بتعريف تلك المفردات وما يجب الاصطلاح عليه بشأنها ، ثم أسرد الدلائل وكل الآيات التي يتفق مضمونها ويؤيد هذا المعنى وكيف أن التعريف بهذه الصورة لا يحدث معه تعارض للمفردة في أي موضع لها في كتاب الله مما يؤكد صحة التعريف ودقته وينفي عنه التضارب والتناقض والتعارض والله الهادي والوكيل.
2-  تعريف النفس والروح وتعريف الموت والوفاة :
في هذا المطلب أود التنويه قبل أن أعرض التعريف لكل من المفردتين أن أنوّه أن النفس متعلقة بالوفاة والروح متعلقة بالموت ، فقبض الروح هو الموت ، وإمساك النفس هو الوفاة وهذا هو الأساس الذي نبني عليه هذا البحث وهو الجذر الفكري الذي وصلنا من خلاله لمعرفة كنه النفس وما يحيط بالروح من أخبار وحقائق ثابتة من واقع القرآن الكريم ، ومن المهم التنويه أيضاً أن كُنْهَ الروح عِلْمْهُ عند الله وحده وما نعرضه هنا ليس سوى ملامح عامة لطبيعة الروح وليس تفصيلاً يخرج عما يستنبطه قارئ القرآن الكريم من مفاهيم من خلال الآيات الكريمة التي تحدثت عن الروح والنفس، ومن هنا ومن هذا المنطلق الثابت نقول أن التعريفات للمفردتين على النحو التالي:
النَّفْس : هِيَ ذَاتُ الإِنْسَانِ الحَقيْقيَّة الثَّابِتَة التيْ خَلَقَهَا اللهُ جَلَّ وَعَلاَ وَقَدَّرَ سَكَنَهَا وَتَنَقُّلَهَا فِيْ الأطْوَارِ وَالأجْسَادِ المُخْتَلِفَةِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ وَهِيَ مَنَاطُ الإرَادَةِ وَالإدْرَاكِ.
وسأستعرض عدة حقائق خلصت إليها من كتاب الله عن هذه النفس قبل أن أنطلق للروح وتعريفها فأقول وبالله التوفيق:
النفس هي مناط الاختيار والإرادة والذاكرة والخبرة ، وهي ما نسميه بالعقل الباطن فهي المحرك الأساس للجسد وحين سكنها في الجسد الصحيح فإنها تحرك أعضاؤه وتتحكم بأطرافه وحواسه الحية فينتج عن إرادتها وأوامرها حركة وأفعال ملموسة.
والقلب هو نواة النفس ، ومفهوم القلب في التعبير القرآني هو الضمير وليس العضلة التي تضخ الدم بل القلب في القرآن هو جهاز التحكم المركزي الذي يوجد في مقلوب النفس ودواخل العقل وسمي (قلباً) لأنه لا يرى وهو من المصدر “فَعْلْ” وهو كالنفس لا يعد جرماً مادياً ملموساً بل هو نواة النفس لأنه داخلها.
والنفس هي من يشعر بالألم وفي غيابها فإن قطع الجسد بالمناشير لا ينتج عنه ألم ولا مقاومة طالما غاب عنصر التحكم ورئيس الجسد حتى لو تواجدت الروح.
نفس الإنسان التي هي ذاته تختلف عن بقية الأنفس فابن آدم يملك الأمانة وحملها قبل خلق آدم “نفساً”قبل أن تسكن الجسد بينما أنفس المخلوقات – سوى الثقلين – مسلوبة الإرادة لا تملك اختياراً بين الخير وبين الشر فقد أتوا لله طائعين لا مجال للعصيان عندهم.
والنفس المكلفة التي تسيطر على الجسد وأعضاءه فتمشي بالقدم للخير أو للشر وتبطش باليد في الخير أو في الشر وتستعمل العين فَتغُضَّها حين ينبغي عليها ذلك فهي إذن من يحاسب أما الجسد فهو مادة بالية وآلة فانية يعيدها الله ويبعثها بصورة تناسب مقامها التالي.
ولكن ما هو الفرق بينها وبين الروح ؟؟ ، لا شك أن تعريف الروح سيبين لنا جزئياً ما هو الفرق وكيف نميز الروح عن النفس ؟
الرُّوْح : هِيَ الطَّاقَةُ الَّتِيْ يَبُثُّهَا اللهُ جَلَّ وَعَلا فِيْ المَخْلُوقْ فَتَبُثُّ معها الحياة والحركة والدفء والتجدد والنُّموّ.
وكل مخلوق تبث فيه الحياة والحركة والنمو هو كائنٌ حيٌّ به روحٌ فإن نزعت هذه الروح كان (الموت) ، والحياة تكون بوجود الروح والموت يكون بنزع الروح وانعدام وجودها في الجسد سواء كان بشراً أو حيواناً أو نباتاً أو جانَّاً وكل كائن حي يحيا بالروح التي لا ترى ولا يعلم كنهها كما أسلفنا لأنها من أمر ربي فربنا جلت قدرته المحيط بهذه الروح فهو خالقها وموجدها وهو من يقبضها و يسلبها.
ومن هنا نقول أن الموت هو :
المَوْت: انْتِزَاعُ رُوْحُ الْكَائِنِ الْحَيِّ مِنْ جَسَدِهْ فَيَتَوَقَّفُ الدَّمُ عَنِ الجَرَيانِ فِيْ أعْضَائِهِ وتَنْتَفِيْ عَنْهُ الْحَيَاة وَعَلاَمَاتِهَا، ويَقَعُ المَوْتُ حَتْماً عَلَى كُلِّ حَيِّ بَشَراً كَانَ أوْ سِوَاهْ.
أما الوَفَاةْ فهي :تَوَقُّفُ جَرَيَانِ الْقَلَمِ وَ انْقِطَاعُ عَمَلِ العَبْد العَاقِلِ الْمُكَلَّفِ وَوَفاءَهُ وَتَمَاَمه، وَجَزَاءُ أجْرِهِ مِنَ الله واسْتِيْفَاءهِ بِخُرُوْجِ نفَسِهِ مِنْ جَسَدِهِ .
وكلُّ كائنٍ حيِّ تجري فيه الروح من البشر والدواب والشجر يموت وتبلى أعضاؤه ، ولكن لا تطلق الوفاة إلا على المكلفين من الخلق ولم يعرف إطلاقها إلا على البشر ، فلا تطلق مفردة “الوفاة” على الحيوان لأنه لا يجري عليه القلم ، ولا تطلق مفردة الوفاة على النبات الذي هو في حقيقته كائنٌ حي به صورة بسيطة من صور الحياة، والإحياء هو نفخ الروح في الجسد   ، كما أن الإماته نزع الروح من ذلك الجسد.
وكل مُتَوَفَّى لا يلزم أن يكون ميِّتاً ولكنَّ كل ميِّتٍ هُوَ بالضرورة مُتوفّى بمعنى أن الله جل وعلا استوفى عمله وأوقف القلم عن الجريان بحسناته وسيئاته ، وكل من توقف القلم عن الجريان عليه بعمله فهو في حكم ” المتوفَّى” ، فإن عاد إليه وَعْيهُ وتَمَلّكَ إرادته وتمييزهُ عاد إليه القلم يجري بعمله ويدون خيره وشره، ومن يفقد عقله بعد البلوغ فقد استوفى الله ما سبق الجنون من العمل وأوقف القلم عن الجريان بسيئاته وحسناته فإن كُتِبَ أن يفيق فيعود إليه عقله عاد القلم ليجري بتدوين عمله.
والعلاقة بين العبد وبين ربه علاقة تجارة مقدسة فالعبد يعمل ، والرب يُبْدل ويُجْزل ، فإذا حانت الوفاة استوفى الله جل وعلا عمل العبد وأوفى إليه أجره ، فيصبح العبد مُتَوَفِّي لأجره من ربه ، ومُتَوَفَّى عمله إلى ربه ، يقول جل شأنه:
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }]آل عمران:57]
ومن خلال الآيات الكريمة فالنفس شيء والروح شيء آخر ، فخروج الروح من الجسد هو الموت لتوقف القلب وبرودة الجسد وفساد أعضاءه ، ولكن خروج النفس ليس موتاً بل وفاة واستيفاء للعمل وتوقفٌ عن حساب الأعمال ماعدا تلك المعلقة التي لم يكملها حال حياته فتستوفى ما علق لها من عمل حسن أو سيء فيعطى أجر عمله وافيا كاملا غير منقوص ، فالموت للجسد والوفاة للنفس.
ولعلنا نجد أن الروح مرتبطة بالجسد الدنيوي نفخت فيه لتحيي أعضاءه وتبث الحياة فيها ولكن النفس موجودة منذ خلق الله آدم فالأنفس موجودة قبل نفخ الروح فيقول ربنا جلت قدرته :
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ {]الأعراف:172]
فيتبين لنا هنا بأن النفس هي الإنسان بذاته المتنقلة من جرم لجرم ومن شكل لشكل ولكنها ليست الروح وتبين لنا من آيات الكتاب الحكيم بأن الروح يرسلها الله جلت قدرته لتنفخ في الجسد الدنيوي فتبعث فيه الحركة والحياة فإذا أمسك الله نفسه حال الموت أستخرج الله روحه لتفارق جسده بينما نفسه سبقت روحه عند ربها مستوفية عملها إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ، فالجسد بروحه التي تبث الحياة فيه إنما هي طور من أطوار الإنسان سبقته أطوار وتتلوه أطوار أخرى فالجسد بالٍ والروح عائدة والنفس باقية تتنقل من شكل إلى شكل.
يقول جل من قائل:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
 
فالروح وجدت بعد النفس وتنفخ في الجسد الدنيوي لتبعث فيه الحرارة والحركة والحياة وتنزع من الجسد الدنيوي ليؤول إلى الموت لذلك فقد ارتبطت الروح في هذه الآية ومثيلاتها بالجسد ، بينما ترتبط النفس بالعمل.
والروح أداة لإحياء الجسد لا يقع عليها (كما اسلفنا) عذاب ، في حين أنَّ النفس هي الإنسان ذاته وهي اللوامة والأمارة والمطمئنة وهي التي تتلقاها الملائكة فتوكل بعذابها جزاءاً لها أو تحتفي بها حال نزع الروح والانتقال لحالة الموت فيقول ربنا جلت ذاته:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ {]الأنعام:93]
فنلحظ هنا بوضوح ان ألم النزع تعاني منه النفس وتشعر به عند الموت فهي مرحلة تحول من الحياة إلى البرزخ يكتنفها الم القبض الذي يشتد على الكافرين والظالمين.
* النَّومُ وَالوَفَاةْ
ولعل أهم آي الذكر الحكيم التي تشرح لنا طبيعة الموت والوفاة وعلاقتها بالنوم هي في سورة الزمر إذ يقول ربنا جلت قدرته:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{]الزمر:42]
فيخبرنا ربنا بجلاء عن الفرق بين الموت والوفاة وببيان عظيم وعجيب فيقول سبحانه (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)أي أن الله جل وعلا يستوفي عمل الأنفس ويوقف جريان القلم عليها عندما يقع عليها الموت وتفارقان النفس والروح الجسد ، (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)ويتوفى أيضاً تلك الأنفس التي لم تمت – تستوفى أعمالها – في منامها فيوقف جريان القلم عليها ويوفي مالها وما عليها من سيئات وحسنات ، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ)أي يستبقي نفس الميّتِ فتفارق عندها روحه جسده تماماً ويتوقف جريان الدم في أعضاءه وتصبحُ وَفَاته لعمله نهائية وينقطع عمله ويتوقف تكليفه حتى قيام الساعة (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى)وأما تلك النفس التي توفيت “نوما” وأرسل الله نفسه بمعنى أطلقها ولم يستبقيها فإنه يفيق من نومه وروحه لازالت في جسده أصلاً لم تغادرها فيعود القلم ليجري عليه بما يفعل ويعود عمله ليدون ويسجل وهكذا حتى يمسك الله نفسه في النوم أو يقبضها على أي حال أراد جلت قدرته (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)فنحن مأمورون بتدبر هذه الدورة العجيبة والحالة الرهيبة لنعتبر وننظر كيف أن الله سبحانه وتعالى يعامل عباده بالعدل والقسط فيوقف القلم عن الجريان بالأعمال إن مات الإنسان أو نام فصار لا يملك ارتكاب سوء أو فعل خير.
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {]الأنعام:60]
فالله يرفع القلم حال النوم ويوفِّي إلى الخلق أجورهم ويستوفي أعمالهم ، فإذا جاء النهار وانتبه من النوم عادت جوارح الإنسان يسجل عليها ما تفعل وتكتسب ما تستحق وما كتب الله لها وهكذا حتى يقضى الله أجل الوفاة النهائية بالموت ونزع الروح من الجسد.
 
نَمَاذج مِنْ ذِكْر المَوْت والوَفَاة فِي الذِّكْر ِالحَكِيم
ونستعرض بعض الآيات القرآنية التي تذكر الموت والوفاة وكيف أن المعنى يتسق مع ما ذكرنا أو يخالفه لنتلمس أوجه المعاني المختلفة ونفهمها ونتدبرها كما أُمرنا لعل الله يفتح علينا جميعاً بعلم من علمه انه هو العليم الحكيم.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {]البقرة:281]
فالوفاء والاستيفاء هنا هو إتمام الثواب والجزاء لنفس الإنسان وما كسبه من خير أو اكتسبه من إثم بلا نقص أو تغيير ، وإذا أرجع الإنسان إلى الله بإمساك نفسه وبموته ونزع روحه من جسده فقد (توفي) بالمعنى الذي نتحدث عنه.
{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {]آل عمران:25]
وهذه صورة مشابهة للاستيفاء والوفاء بالعمل وما كسبته الأنفس وهنا نكرر أن الوفاة والاستيفاء ارتبطت بالأنفس ولم يرد لها ارتباط بالروح لاختلاف الروح عن النفس.
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {]آل عمران:161]
وهنا يرتبط الوفاء والاستيفاء أيضاً بالنفس وبالحساب فالله يحاسب الأنفس بما توفيت عليه من عمل بلا زيادة ولا نقصان ، فلا يظلم الله نفساً فيخرج من سجلها عملاً أفضت إليه حال حياتها ولا يحملها وزر عمل تم بعد موتها ووفاتها.
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {]النحل:111]
فارتباط الأنفس بالوفاء والاستيفاء والعمل مشهور ومذكور في مواضع عديدة من كتاب الله وإذا ما تتبعنا واستقرأنا الآيات الكريمة بهذه الصورة فهذا يجلي الفهم عن كنه النفس والعمل والكسب والوفاة والاستيفاء ويحقق الترابط المعنوي الذي يثبت صحة التعريف مقارنة بالسياقات المذكورة ، بينما ترتبط الأرواح بالأجساد ومادتها وحياتها.
ولم يشتهر أن ارتبطت الروح بالوفاة والاستيفاء كما ذكرنا ، ولم ترتبط الروح بالعمل والكسب في الدنيا بل كان ارتباط النفس في المواضع التي سبق ذكرها بالعمل وجزاءه ، ومن الأخطاء الشائعة تسمية (الموت السريري) أو (الموت الدماغي) وهذا لا يصح ولكن يقال (الوفاة السريرية) فالموت بنزع الروح وتوقف الدم لم يحدث ولكن الوفاة واستيفاء العمل ووفاء الأجر وقع طيلة فترة الغيبوبة ، وقد يستمر القلم واقفا عن الجريان  حتى الموت وخروج الروح ، وقد يريد الله فيفيق المريض الغائب الوعي من غيبوبته فتعود نفسه لجسده ويعود القلم ليجري بتدوين قوله وعمله إلى أن يشاء الله.
ولعل هذا المفهوم يفسر بجلاء ووضوح كثير من الظواهر التي نلحظها إذا درست على ضوء القرآن الكريم والأحاديث الشريفة كتلبس الجان للإنسان ، والجنون وحالات الإنسان الأخرى فيما بعد الموت وحال البعث والحساب ، ولعلنا إن بدا لنا منها أمر وتحققنا منه أن نضيفه هنا، أمد الله في أعمارنا وأحسن أعمالنا ونسأله أن يجازينا بفضله وبما هو أهله ولا يجزينا بما قمنا بعمله انه على كل شئ قدير.
يقول تعالى :
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا {]النساء:15]
أي يتوقف القلم عن الجريان عليهن ويستوفين كسبهن في الدنيا بفعل الموت ، ليس نوماً ولا رفعاً وهذا دليل على أن الوفاة غير الموت الذي يحدث بفاعل تخرج به الروح من الجسد وبالتالي تحدث الوفاة والاستيفاء بالمفهوم الذي أسلفنا عن الوفاة فيقول جل جلاله (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فيستوفي الله عملهن ويوفيهن حسابهن.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ{]الأنعام:61]
وسياق الآية يتحدث عن استيفاء العمل فالحفظة لا يفرطون في إحصاء أعمال العبد حال وفاته سواء بالموت أو بالوفاة ، وفي هذه الآية يتحدث عن حالة الموت ونزع الروح وقد فصل فيها السلف رحمهم الله فقال المفسرين في ذلك:
جاء في تفسير القرطبي رحمه الله: قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ” وهو القاهر “، والله الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته, (12) لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم، المذلَّل المعْلُوّ عليه لذلته (13) =” ويرسل عليكم حفظة “، وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلا ونهارًا, يحفظون أعمالكم ويحصونها, ولا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يُضيعون. (14)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ومما أحصى القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية فقال:
13323 – حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ” ويرسل عليكم حفظة ” قال : هي المعقبات من الملائكة ، يحفظونه ويحفظون عمله .
13324 – حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ” وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ” يقول : حفظة ، يا ابن آدم ، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك ، إذا توفيت ذلك قبضت إلى ربك ” حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ” يقول – تعالى ذكره – : إن ربكم يحفظكم برسل يعقب بينها ، يرسلهم إليكم بحفظكم وبحفظ أعمالكم ، إلى أن يحضركم الموت ، وينزل بكم أمر الله ، فإذا جاء ذلك أحدكم ، توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الأرواح ، ورسلنا المرسلون به ” وهم لا يفرطون ” في ذلك فيضيعونه.
فهذه الآية الكريمة تؤيد كما أيدت أخواتها بأن الوفاة متعلقة بالنفس وعملها ، والموت متعلق بالروح  ونزعها من الجسد الذي تحييه.
 
وَفَاةُ المَسِيْح عَلَيْهِ السَّلاَم وَرَفْعِه
هذا المفهوم يفسر ويبيِّن مسألة وفاة المسيح عليه السلام ورفعه ويجلو التضارب والغموض في فهم البعض حول مفهوم نفي القتل في القرآن من جهة (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ) وبين قوله تعالى لعبده عيسى عليه السلام (يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)من جهة أخرى ولنتتبع هاتين الآيتين على ضوء ما توصلنا إليه من مفهوم للوفاة:
قال الحق جل شأنه:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ{]آل عمران:55]
أي أن الله يخبر عبده عيسى أنه سيستوفي عمله ويوقف التكليف الدنيوي عليه فلا يجري عليه القلم ولا يحاسب برفعه هذا على ما أسنده الله إليه من رسالة ومهمة ولا ما أوجبه الله عليه قبل هذه الوفاة من عبادات وما حرمه عليه من محرمات ويتوقف كسبه الدنيوي بوفاته واستيفاء الله لعمله واستيفاء عيسى عليه السلام لأجره.
وهذه الوفاة لا يلزم فيها وقوع الموت أبداً كما قد أسلفنا فروحه تظل في جسده ودمه يجري في عروقه، وهي حالة من حالات توقف القلم عن الجريان بعمل ابن آدم وكسبه فإذا أراد جل وعلا وأنزله كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون بذلك قد خرج من حالة الوفاة وعاد القلم ليجري عليه حتى موته واستيفاء عمله وإيفاءه لأجره نهائياً .
وعندما يبعث الله الأمم ويوقف أنبيائهم ، وشهدائهم فإنه يستجوب عبده امام الأشهاد ليقيم الحجة بالحق والعدل فيقول جل جلاله:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117
أي بلغتهم ما أمرتني بإبلاغه ولم آت من عند نفسي بشيء وكنتُ مكلفاً بدعوتهم والشهادة عليهم ومراقبة استجابتهم للدعوة فلما أوقفت التكليف عني واستوفيت عملي وأوفيتني أجري وكسبي كنت بذلك أنت الرقيب عليهم ولم أعد مكلفاً بالرسالة وتبليغ أمرك ونهيك وأنت على كل شيء شهيد.
وهذا المفهوم السليم يرد على أولئك الذين ضلوا من المسلمين وتخبطوا في فهم رفع المسيح ونفي موته واثبات وفاته بمعنى وقوف جريان القلم عليه كما أسلفنا فلما عصي عليهم فهم الوفاة والموت والفرق بينهم ادعوا موته ونفوا أنه حيّ وأنه سينزل وادعوا أن المقصود (بالرفع) هو رفع درجته وقدره عند الله ، وهذا قول فاسد باطل فعيسى في رفعةٍ من قبل ولادته ودرجته عالية عند ربه منذ أجرى الله المعجزات بحمل مريم به وبتكليمه للناس في المهد وحتى نجاته من اليهود ، ولكن عدم تمكنهم من فهم الفرق بين الموت والوفاة شطح بهم ليعتقدوا أن عيسى مات وفارقت روحه جسده وهذا خطأ كبير.
وهاهو الله جل وعلا يقول:
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
فهم قطعاً لم يقتلوا عيسى بل إنهم في الأصل عندما قتلوا رجلا وعلقوه على الصليب لم يكونوا متيقنين من أنه عيسى بل داخلهم الشك في هويته ، والقتل هو إحداث الموت بفعل خارجي وعندما ينفي الله الموت عن عبده ونبيه عيسى عليه السلام فيبنغي أن تكون الوفاة أمر غير الموت ، ويجدر بنا أن نقول هنا أن الموت والقتل مؤداهما انتزاع الروح من الجسد بطرق مختلفة ، فيما تختلف الوفاة إذ لا تخرج أثنائها الروح من الجسد البتة فإن حدث كان ذلك موتاً
ثم أنه جل وعلا يخبرنا بأن أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى عليه السلام (قبل موته)ثم أنه يكون شهيداً على أهل الكتاب يوم القيامة ، مما يثبت وفاته ولكن لا يثبت موته بل يثبت أنه لم يمت لأن علامة موته أن يسبق ذلك الموت إيمان أهل الكتاب به كنبي مرسل من عند الله فيؤمن اليهود به مسيحاً والنصارى يؤمنون به نبياً.
ومن الدلائل العظيمة على رجعة المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى أمه وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام آيتين أورد إحداها:
{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران:46]
ونعلم ان نبي الله عيسى كلم الناس في المهد وهذا معجز يستحق الذكر فلماذا ذكر الله تعالى (كهلاً) ؟ فليس غريب ولا معجز أن يتكلم الإنسان في كهولته وهنا نقول أن الله جل وعلا رفع عيسى شاباً فقوله تعالى يكلم الناس (كهلاً) إشارة لنزوله آخر الزمان وبقاءه حتى يصبح كهلاً ، فأن يكلم الناس كهلٌ كانوا يظنونه قد مات فلا شك أنها معجزة لا تقل عجباً من ولادته بدون اب وتكلمه في المهد فسبحان الله رب العالمين.
وهذه من أعظم ثمرات هذا البحث بالرد على كل من أنكر عقيدة الرفع والرجعة لعيسى عليه السلام فنحمد الله جل حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.
والله أعلى وأعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم

إرسال تعليق

التعليقات

https://www.facebook.com/groups/725634620858603
https://www.facebook.com/groups/725634620858603


جميع الحقوق محفوظة

مدونة اجتهاد الاسلامية

2016