مداخلة بعنوان الاجتهاد القضائي
"مفهوم المجتهد ومدلوله" الجزء الأول
تعريف الاجتهاد
الاجتهاد في اللغة معناه الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه ، وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كأن يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة.
وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع وهو سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهدا.(1)
وأما الاجتهاد في معنى القضاء فيطلق على المسلك الذي يتبعه القضاة في أحكامهم سواء منها ما يتعلق بنصوص القانون ، أم باستنباط الحكم الواجب تطبيقه عند عدم النص.
أما في الجزائر فإن القوانين مدونة وبالتالي فان الاجتهاد يقل عن بلد مثل انجلترا بحيث الاجتهاد هناك له أهمية كبرى لانه لا يوجد هناك قانون مدون جامع يتقيد به القاضي ، وانما الاحكام القضائية تمثل مرجعا بحيث القاضي الانجليزي يتقيد باجتهاد المحاكم العليا. وتعتبر احكام المحاكم كمصدر للقوانين حيث تكون هذه الاحكام ملزمة للقضاء ويطلق على مجموعات الاحكام عبارة (( التشريعات القضائية)).
وفي الجزائر وتطبيقا لنص المادة الاولى من القانون المدني الجزائري تعتبر مصادر القانون هي التشريع ومبادئ الشريعة الاسلامية والعرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
ويظهر لنا بان آراء الفقهاء وأحكام القضاء(2) ليست للقانون الجزائري ومعنى ذلك أن الفقه والقضاء لا يعتد بهما كمصادر للقانون ولا يلتزم القاضي بأي منهما في إصدار أحكامه.
أنواع الاجتهاد
إن الاجتهاد في القانون الوضعي وخاصة في القانون الجنائي يكون فيما لم يرد فيه نص وخاصة إذا ما عرفنا انه من المبادئ الاساسية في العلوم القانونية ان النص القانوني الواضح لا مجال للاجتهاد في تفسيره باعتبار انه (( لا اجتهاد مع النص)).
وقد عرفت الشريعة الاسلامية الاجتهاد وخاصة عندما يكون النص غير قاطع في الدلالة ، وهنا يكون الاجتهاد بالرأي عند عدم وجود النص. وهذا ما قصده الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه بقوله للرسول صلى الله عليه وسلم وقد ولاه قضاء اليمن وسأله: كيف تقضي؟ فقال:(( إن لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله اجتهد رأيي)) وهو الذي عناه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما سأل عن الكلالة ، فقال(( أقول فيها برأيي فان كان صوابا فمن الله وأن كان خطأ فمني)). وهو الذي عناه عمر رضي الله عنه والأئمة عند قولهم(أقول برأيي).
والاجتهاد ثلاثة أنواع:
1/ بذل الجهد للتوصل إلى الحكم ، ومجال الاجتهاد هنا يكون في حدود فهم النص وترجيح بعض ما يفيد مفهوما آخر دون خروج عن دائرة مفاد النص.
2/ بذل الجهد للتوصل إلى حكم لم يرد فيه نص قطعي ولم يظهره إجماع التي وضعها المشرع للدلالة عليه كالقياس.
3/ بذل الجهد للتوصل إلى الحكم الشرعي لتطبيق القواعد الكلية ، وهذا فيما يمكن أخذه من القواعد والنصوص الكلية دون أن يكون فيه نص خاص.
شروط القاضي المجتهد:
القاضي المجتهد هو الذي توافرت فيه صفة الاجتهاد وذلك بأن يكون متمكنا من استنباط الاحكام القانونية.
ويجب أن تتوفر فيه شروط وهي:
أن يكون على معرفة قانونية واسعة وهذا لن يتأتى للقاضي إلا إذا اكتسب معارف نظرية وعملية والإطلاع على أسرار مهنة القضاة وذلك بالعمل والاستمرار والمواظبة.
ما يجب أن يتبعه القاضي الجزائي في المسائل التي لا يوجد فيها نص:
1/ في حالة عدم وجود تشريعي يلجأ القاضي الجزائي إلى مجمل العبارات ومبادئها وروح النص العام وما يقصده المشرع.
2/ يفسر القاضي الألفاظ والمصطلحات القانونية وفقا لمقصد المشرع ويجب أن يجتهد رأيه لمقارنة ما بين يديه بالقضايا المماثلة أو المشابهة وبإمكانه اللجوء إلى آراء الفقهاء للاستعانة بها دون أن يكون ملزما بها.
3/ الاسترشاد بما جرت عليه سوابق العمل القضائي في الجزائر أو الدول الأخرى فيما لا يعارض عادات وأخلاق المجتمع الجزائري.
4/ مراعاة العرف والمعاملات ومبادئ العدالة المطلقة ، وبهذا يمكن للقاضي أن يفتح باب الاجتهاد والحكم في الوقائع والقضايا التي لا يوجد فيها نص صريح.
وباعتبار أنه طبقا للمادة 143 من دستور 1989 تمثل المحكمة العليا في جميع مجالات القانون الهيئة المقومة لأعمال المجالس القضائية والمحاكم وأنها تضمن توحيد الاجتهاد القضائي في جميع أنحاء البلاد وتسهر على احترام القانون.
الفرق بين الاجتهاد والقياس:
يلجأ القاضي للقياس في حالة نقص التشريع ، أي عندما تعرض عليه حالة لم يرد بشأنها نص خاص في التشريع فيطبق عليها نصا تشريعيا مقررا لحكم حالة أخرى إذا ما وجد أن الحالتين متشابهتان تماما وأنهما متحدتان في السبب أي العلة. ومثال ذلك الحديث النبوي الشريف الذي يقول(( من يقتل مورثه لا يرثه)) وهو حكم شرعي ، قيست عليه حالة الموصي له الذي يقتل الموصي ليتعجل الحصول على الوصية. وحرم من حقه في الوصية كمبدأ عام في الشريعة الاسلامية ويجب الاشارة بأن القياس لا يجوز استعماله في النصوص الجزائية.
الاجتهاد القضائي وتحقيق العدالة:
المشرع يصدر القوانين والقاضي يطبقها ، وعلى ذلك فالسلطتان التشريعية و القضائية متكاملتان لتحقيق روح العدالة.
إن الشرع يستوحي آراءه من المجتمع بعد تفكير وتقدير للأمور والقاضي يعمل في مواجهة الواقع مستوحيا آراءه من ظروف كل قضية وملابساتها بجزئياتها وكلياتها ، ومن ثم فهو مدعو للقضاء طبقا لأحكام التشريع.
والقاضي ملزم بمتابعة التطور التشريعي باعتبار أن القاعدة القانونية كائن حي يتطور ، والقاضي هو أول من يلمس هذا التطور والتبدل وأول من يحس بالحاجة إلى التغيير والتجديد ، فإذا لاحظ القاضي في قضية ما ، أن النصوص الموجودة بين يديه لا تحقق العدل ولا تستجيب مع مقتضياتها وظروفها ، فهل يمسك عن القضاء فيها ، أو يخضع لتطبيق تلك النصوص التي يراها غير موفية أم أنه يحكم بما يراه عدلا وإنصافا.
ومن المعلوم أنه يحضر على القاضي أن يحكم بغير التشريع ، باعتبار أن القاضي يشكل مصدر العمل القضائي في تأويل النصوص وتحري روحها.
كما وأن امساك الفصل في القضايا بعلة عدم وجود النص أو غموضه ، يعد في موقع منكر العدالة وحينئذ لا يبقى له إلا أن يحكم ولكن بماذا يحكم؟
انطلاقا من أن القاضي يعمل لتحقيق هدف من أهم أهداف الدولة والمتمثل في تحقيق العدل والإنصاف. فان هذا يدفعنا للقول أنه إذا لاحظ قصور النص القانوني الواجب التطبيق عن تحقيق العدل لما بين ذلك النص والعدل من البون الشاسع فأنه يتعين عليه الحكم بما يتوافق ومنطق العدالة ، فإذا قلنا أن القاضي يطبق النص بعلاته تأسيسا على أنه من المحضور عليه الخروج عن منطق النصوص وبالتالي الدخول في مجال السلطة التشريعية فاننا بذلك نأمر القاضي بالعمل على نقيض ما قصده المشرع من تحقيق العدل والانصاف ونلزمه بإهدار شخصيته والحكم بما يخالف ضميره ووجدانه ، وكل ذلك لا يقرره امنطق والذوق القانونيين السليمين.
من هنا يخول للقاضي في صورة عدم النص التشريعي أن يركن إلى البحث في مصادر القانون الأخرى.
الاجتهاد القضائي وأثره على التشريع:
إن حالات الغموض والتعارض أو عدم الانسجام مع الواقع تمثل أكثر الحالات مدعاة للاجتهاد، لان تعدد احتمالات الفهم بتعدد احتمالات التصدي لمثل هذه الحالات.
كما وأن سكوت النص أو قصوره تعد أنسب الحالات واعقدها لتدخل الاجتهاد القضائي بالمفهوم الذي يكاد كاملا لبعث قاعدة قانونية لان القاضي يواجه صمت القانون في مسألة ما ، تحتم عليه الفصل.
وهكذا أخذ القضاء يعمل باسم التأويل والتفسير لمراد المشرع وتطبيق القواعد العامة للقانون ويبحث في بعض النصوص من المعاني والتفاسير السامية ولم يعد القاضي كرجل جامد بل أصبح يتصرف في النصوص ليجعلها تتماشى مع الحياة العملية.
والقاضي لا يتجاوز حدود القانون ويدخل حرم السلطة التشريعية ، وذلك بإصدار حكم تكون له الصبغة العامة أو يحكم بما لا يقتضيه القانون أو بما يخالف القانون وإنما إذا أشكل عليه الأمر ورأى أن ما بسط لديه من الوقائع يستوجب حلا عادلا لا يتماشى مع ظاهر النصوص فان النصوص فإن الواجب يدعوه في مثل هذه الحالة لان يتعمق في البحث و الاستقصاء لفهم مراد المشرع ، وهذا ما يجب على القضاة في أحكامهم بالمحافظة على روح التشريع والتعمق في فهمه وأن يثبتوا ويتأنوا في استعمال الفهم ، وأن لا يركنوا إلى التفسير والتأويل إلا عندما يسمح لهم النص القانوني بذلك لغموض أو إجمال حتى لا يتجاوزوا اختصاصهم إلى منطقة التشريع وحتى لا يقعوا في الخطأ.
هل يمكن للقاضي أن يتمرد على المشرع؟:
لقد تمرد القاضي المدني في فرنسا في قضية الدكتور جيري Giry وترجع وقائع قضية الدكتور جيري Giry في أن محافظ الشرطة استدعى الدكتور جيري طبقا للمواد 43/44 من قانون الإجراءات الجبائية الفرنسي إلى فندق حدث فيه اختناق بعض الأشخاص لمعاينة أسباب الوفاة ،
وأثناء قيام الدكتور جيري بعمله وقع انفجار لم يعرف سببه ، فأصيب الدكتور جيري في هذا الانفجار ، وعلى ذلك تقدم بطلب تعويضات عن الأضرار التي لحقته أمام القضاء العادي ، وبالضبط أمام محكمة السين المدنية ، فذهبت هذه المحكمة إلى أن الدكتور جيري ساهم في سير المرفق العام للقضاء ، وأنه تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات تكون المحاكم القضائية العادية مختصة بالقضايا المتعلقة بسير المرفق العام للقضاء.
وذهبت المحكمة في تسبيبها لحكمها بأنه يحق لها استلهام المبادئ العامة للقانون المتعلقة بالقانون العام والقانون المدني ، وان دور القاضي غير محدد بتطبيق القانون المدني وحده. وعلى هذا يجب القول بان الدكتور جيري لحقه ضررا وهو يساهم بطلب من مرفق القضاء العادي ، ولا يوجد أي خطأ أو عدم حيطة من جانبه. ولهذا فان قواعد العدالة كما ترى المحكمة تتطلب التعويض عن الضرر الذي أصاب شخصا أثناء عملية ضرورية نفذت للصالح العام ، يجب أن تتحمله الجماعة وليس المضرور وحده.
وقررت المحكمة طبقا لمبدأ مساواة المواطنين أمام الأعباء العامة إعطاء الحق في التعويض للدكتور جيري.وكان هذا الحكم موضع استئناف أمام مجلس قضاء باريس.غير ان المجلس كان اقل جرأة من محكمة السين ، حيث أنه بعد اعترافه بأنه من الانصاف القول ان الضرر الذي لحق شخصا أثناء عملية ضبطية قضائية نفذت للصالح العام ، يجب أن تتحمله الجماعة وليس الضحية وحدها.وأضاف المجلس بأن الإنصاف لا يسبب وحده القرار القضائي وأن الحكم القضائي يجب أن يستند إلى نص تشريعي ، و القاضي لا يمكنه أن يسد نقائص التشريع ، وتوصل المجلس في قراره بأن الضبطية القضائية بعد وصولها إلى الأماكن أصبحت حارسة للعمارة والدولة باعتبارها حارسة تكون مسؤولة عن الأضرار التي لحقت بالدكتور جيري.
وقد انتقد قرار مجلس باريس بشدة فبالنسبة للسيدEsmein فانه لمجلس قد ارتكب خطأ عندما أسس قراره على مفهوم الحراسة ، كما ذهب أن الدولة مسؤولة عن حراسة الأشياء الخطرة وبالتالي تكون مسؤولة عن الأضرار التي لحقت بالأشخاص بسبب الانفجار، والذين لا تربطهم أية علاقة بالمرفق ، غير أنه عبر عن فرحته لتعاون قواعد القانون المدني والقانون الاداري. كما قررت محكمة النقض أن الضرر الذي يصيب شخصا أثناء عملية ضرورية تنفذ لصالح مرفق عام كمرفق الضبط القضائي ، يجب أن تتحمله الجماعة التي اشتغل لصالحها المرفق العام للقضاء ، وبهذا يكون القاضي في فرنسا بعد اجتهاده قد توصل إلى الحكم بمسؤولية الدولة رغم غياب النصوص التي يطبقها بهذا الشأن.
مــــــريــــم نــــور
"مفهوم المجتهد ومدلوله" الجزء الأول
تعريف الاجتهاد
الاجتهاد في اللغة معناه الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه ، وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كأن يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة.
وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع وهو سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهدا.(1)
وأما الاجتهاد في معنى القضاء فيطلق على المسلك الذي يتبعه القضاة في أحكامهم سواء منها ما يتعلق بنصوص القانون ، أم باستنباط الحكم الواجب تطبيقه عند عدم النص.
أما في الجزائر فإن القوانين مدونة وبالتالي فان الاجتهاد يقل عن بلد مثل انجلترا بحيث الاجتهاد هناك له أهمية كبرى لانه لا يوجد هناك قانون مدون جامع يتقيد به القاضي ، وانما الاحكام القضائية تمثل مرجعا بحيث القاضي الانجليزي يتقيد باجتهاد المحاكم العليا. وتعتبر احكام المحاكم كمصدر للقوانين حيث تكون هذه الاحكام ملزمة للقضاء ويطلق على مجموعات الاحكام عبارة (( التشريعات القضائية)).
وفي الجزائر وتطبيقا لنص المادة الاولى من القانون المدني الجزائري تعتبر مصادر القانون هي التشريع ومبادئ الشريعة الاسلامية والعرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
ويظهر لنا بان آراء الفقهاء وأحكام القضاء(2) ليست للقانون الجزائري ومعنى ذلك أن الفقه والقضاء لا يعتد بهما كمصادر للقانون ولا يلتزم القاضي بأي منهما في إصدار أحكامه.
أنواع الاجتهاد
إن الاجتهاد في القانون الوضعي وخاصة في القانون الجنائي يكون فيما لم يرد فيه نص وخاصة إذا ما عرفنا انه من المبادئ الاساسية في العلوم القانونية ان النص القانوني الواضح لا مجال للاجتهاد في تفسيره باعتبار انه (( لا اجتهاد مع النص)).
وقد عرفت الشريعة الاسلامية الاجتهاد وخاصة عندما يكون النص غير قاطع في الدلالة ، وهنا يكون الاجتهاد بالرأي عند عدم وجود النص. وهذا ما قصده الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه بقوله للرسول صلى الله عليه وسلم وقد ولاه قضاء اليمن وسأله: كيف تقضي؟ فقال:(( إن لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله اجتهد رأيي)) وهو الذي عناه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما سأل عن الكلالة ، فقال(( أقول فيها برأيي فان كان صوابا فمن الله وأن كان خطأ فمني)). وهو الذي عناه عمر رضي الله عنه والأئمة عند قولهم(أقول برأيي).
والاجتهاد ثلاثة أنواع:
1/ بذل الجهد للتوصل إلى الحكم ، ومجال الاجتهاد هنا يكون في حدود فهم النص وترجيح بعض ما يفيد مفهوما آخر دون خروج عن دائرة مفاد النص.
2/ بذل الجهد للتوصل إلى حكم لم يرد فيه نص قطعي ولم يظهره إجماع التي وضعها المشرع للدلالة عليه كالقياس.
3/ بذل الجهد للتوصل إلى الحكم الشرعي لتطبيق القواعد الكلية ، وهذا فيما يمكن أخذه من القواعد والنصوص الكلية دون أن يكون فيه نص خاص.
شروط القاضي المجتهد:
القاضي المجتهد هو الذي توافرت فيه صفة الاجتهاد وذلك بأن يكون متمكنا من استنباط الاحكام القانونية.
ويجب أن تتوفر فيه شروط وهي:
أن يكون على معرفة قانونية واسعة وهذا لن يتأتى للقاضي إلا إذا اكتسب معارف نظرية وعملية والإطلاع على أسرار مهنة القضاة وذلك بالعمل والاستمرار والمواظبة.
ما يجب أن يتبعه القاضي الجزائي في المسائل التي لا يوجد فيها نص:
1/ في حالة عدم وجود تشريعي يلجأ القاضي الجزائي إلى مجمل العبارات ومبادئها وروح النص العام وما يقصده المشرع.
2/ يفسر القاضي الألفاظ والمصطلحات القانونية وفقا لمقصد المشرع ويجب أن يجتهد رأيه لمقارنة ما بين يديه بالقضايا المماثلة أو المشابهة وبإمكانه اللجوء إلى آراء الفقهاء للاستعانة بها دون أن يكون ملزما بها.
3/ الاسترشاد بما جرت عليه سوابق العمل القضائي في الجزائر أو الدول الأخرى فيما لا يعارض عادات وأخلاق المجتمع الجزائري.
4/ مراعاة العرف والمعاملات ومبادئ العدالة المطلقة ، وبهذا يمكن للقاضي أن يفتح باب الاجتهاد والحكم في الوقائع والقضايا التي لا يوجد فيها نص صريح.
وباعتبار أنه طبقا للمادة 143 من دستور 1989 تمثل المحكمة العليا في جميع مجالات القانون الهيئة المقومة لأعمال المجالس القضائية والمحاكم وأنها تضمن توحيد الاجتهاد القضائي في جميع أنحاء البلاد وتسهر على احترام القانون.
الفرق بين الاجتهاد والقياس:
يلجأ القاضي للقياس في حالة نقص التشريع ، أي عندما تعرض عليه حالة لم يرد بشأنها نص خاص في التشريع فيطبق عليها نصا تشريعيا مقررا لحكم حالة أخرى إذا ما وجد أن الحالتين متشابهتان تماما وأنهما متحدتان في السبب أي العلة. ومثال ذلك الحديث النبوي الشريف الذي يقول(( من يقتل مورثه لا يرثه)) وهو حكم شرعي ، قيست عليه حالة الموصي له الذي يقتل الموصي ليتعجل الحصول على الوصية. وحرم من حقه في الوصية كمبدأ عام في الشريعة الاسلامية ويجب الاشارة بأن القياس لا يجوز استعماله في النصوص الجزائية.
الاجتهاد القضائي وتحقيق العدالة:
المشرع يصدر القوانين والقاضي يطبقها ، وعلى ذلك فالسلطتان التشريعية و القضائية متكاملتان لتحقيق روح العدالة.
إن الشرع يستوحي آراءه من المجتمع بعد تفكير وتقدير للأمور والقاضي يعمل في مواجهة الواقع مستوحيا آراءه من ظروف كل قضية وملابساتها بجزئياتها وكلياتها ، ومن ثم فهو مدعو للقضاء طبقا لأحكام التشريع.
والقاضي ملزم بمتابعة التطور التشريعي باعتبار أن القاعدة القانونية كائن حي يتطور ، والقاضي هو أول من يلمس هذا التطور والتبدل وأول من يحس بالحاجة إلى التغيير والتجديد ، فإذا لاحظ القاضي في قضية ما ، أن النصوص الموجودة بين يديه لا تحقق العدل ولا تستجيب مع مقتضياتها وظروفها ، فهل يمسك عن القضاء فيها ، أو يخضع لتطبيق تلك النصوص التي يراها غير موفية أم أنه يحكم بما يراه عدلا وإنصافا.
ومن المعلوم أنه يحضر على القاضي أن يحكم بغير التشريع ، باعتبار أن القاضي يشكل مصدر العمل القضائي في تأويل النصوص وتحري روحها.
كما وأن امساك الفصل في القضايا بعلة عدم وجود النص أو غموضه ، يعد في موقع منكر العدالة وحينئذ لا يبقى له إلا أن يحكم ولكن بماذا يحكم؟
انطلاقا من أن القاضي يعمل لتحقيق هدف من أهم أهداف الدولة والمتمثل في تحقيق العدل والإنصاف. فان هذا يدفعنا للقول أنه إذا لاحظ قصور النص القانوني الواجب التطبيق عن تحقيق العدل لما بين ذلك النص والعدل من البون الشاسع فأنه يتعين عليه الحكم بما يتوافق ومنطق العدالة ، فإذا قلنا أن القاضي يطبق النص بعلاته تأسيسا على أنه من المحضور عليه الخروج عن منطق النصوص وبالتالي الدخول في مجال السلطة التشريعية فاننا بذلك نأمر القاضي بالعمل على نقيض ما قصده المشرع من تحقيق العدل والانصاف ونلزمه بإهدار شخصيته والحكم بما يخالف ضميره ووجدانه ، وكل ذلك لا يقرره امنطق والذوق القانونيين السليمين.
من هنا يخول للقاضي في صورة عدم النص التشريعي أن يركن إلى البحث في مصادر القانون الأخرى.
الاجتهاد القضائي وأثره على التشريع:
إن حالات الغموض والتعارض أو عدم الانسجام مع الواقع تمثل أكثر الحالات مدعاة للاجتهاد، لان تعدد احتمالات الفهم بتعدد احتمالات التصدي لمثل هذه الحالات.
كما وأن سكوت النص أو قصوره تعد أنسب الحالات واعقدها لتدخل الاجتهاد القضائي بالمفهوم الذي يكاد كاملا لبعث قاعدة قانونية لان القاضي يواجه صمت القانون في مسألة ما ، تحتم عليه الفصل.
وهكذا أخذ القضاء يعمل باسم التأويل والتفسير لمراد المشرع وتطبيق القواعد العامة للقانون ويبحث في بعض النصوص من المعاني والتفاسير السامية ولم يعد القاضي كرجل جامد بل أصبح يتصرف في النصوص ليجعلها تتماشى مع الحياة العملية.
والقاضي لا يتجاوز حدود القانون ويدخل حرم السلطة التشريعية ، وذلك بإصدار حكم تكون له الصبغة العامة أو يحكم بما لا يقتضيه القانون أو بما يخالف القانون وإنما إذا أشكل عليه الأمر ورأى أن ما بسط لديه من الوقائع يستوجب حلا عادلا لا يتماشى مع ظاهر النصوص فان النصوص فإن الواجب يدعوه في مثل هذه الحالة لان يتعمق في البحث و الاستقصاء لفهم مراد المشرع ، وهذا ما يجب على القضاة في أحكامهم بالمحافظة على روح التشريع والتعمق في فهمه وأن يثبتوا ويتأنوا في استعمال الفهم ، وأن لا يركنوا إلى التفسير والتأويل إلا عندما يسمح لهم النص القانوني بذلك لغموض أو إجمال حتى لا يتجاوزوا اختصاصهم إلى منطقة التشريع وحتى لا يقعوا في الخطأ.
هل يمكن للقاضي أن يتمرد على المشرع؟:
لقد تمرد القاضي المدني في فرنسا في قضية الدكتور جيري Giry وترجع وقائع قضية الدكتور جيري Giry في أن محافظ الشرطة استدعى الدكتور جيري طبقا للمواد 43/44 من قانون الإجراءات الجبائية الفرنسي إلى فندق حدث فيه اختناق بعض الأشخاص لمعاينة أسباب الوفاة ،
وأثناء قيام الدكتور جيري بعمله وقع انفجار لم يعرف سببه ، فأصيب الدكتور جيري في هذا الانفجار ، وعلى ذلك تقدم بطلب تعويضات عن الأضرار التي لحقته أمام القضاء العادي ، وبالضبط أمام محكمة السين المدنية ، فذهبت هذه المحكمة إلى أن الدكتور جيري ساهم في سير المرفق العام للقضاء ، وأنه تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات تكون المحاكم القضائية العادية مختصة بالقضايا المتعلقة بسير المرفق العام للقضاء.
وذهبت المحكمة في تسبيبها لحكمها بأنه يحق لها استلهام المبادئ العامة للقانون المتعلقة بالقانون العام والقانون المدني ، وان دور القاضي غير محدد بتطبيق القانون المدني وحده. وعلى هذا يجب القول بان الدكتور جيري لحقه ضررا وهو يساهم بطلب من مرفق القضاء العادي ، ولا يوجد أي خطأ أو عدم حيطة من جانبه. ولهذا فان قواعد العدالة كما ترى المحكمة تتطلب التعويض عن الضرر الذي أصاب شخصا أثناء عملية ضرورية نفذت للصالح العام ، يجب أن تتحمله الجماعة وليس المضرور وحده.
وقررت المحكمة طبقا لمبدأ مساواة المواطنين أمام الأعباء العامة إعطاء الحق في التعويض للدكتور جيري.وكان هذا الحكم موضع استئناف أمام مجلس قضاء باريس.غير ان المجلس كان اقل جرأة من محكمة السين ، حيث أنه بعد اعترافه بأنه من الانصاف القول ان الضرر الذي لحق شخصا أثناء عملية ضبطية قضائية نفذت للصالح العام ، يجب أن تتحمله الجماعة وليس الضحية وحدها.وأضاف المجلس بأن الإنصاف لا يسبب وحده القرار القضائي وأن الحكم القضائي يجب أن يستند إلى نص تشريعي ، و القاضي لا يمكنه أن يسد نقائص التشريع ، وتوصل المجلس في قراره بأن الضبطية القضائية بعد وصولها إلى الأماكن أصبحت حارسة للعمارة والدولة باعتبارها حارسة تكون مسؤولة عن الأضرار التي لحقت بالدكتور جيري.
وقد انتقد قرار مجلس باريس بشدة فبالنسبة للسيدEsmein فانه لمجلس قد ارتكب خطأ عندما أسس قراره على مفهوم الحراسة ، كما ذهب أن الدولة مسؤولة عن حراسة الأشياء الخطرة وبالتالي تكون مسؤولة عن الأضرار التي لحقت بالأشخاص بسبب الانفجار، والذين لا تربطهم أية علاقة بالمرفق ، غير أنه عبر عن فرحته لتعاون قواعد القانون المدني والقانون الاداري. كما قررت محكمة النقض أن الضرر الذي يصيب شخصا أثناء عملية ضرورية تنفذ لصالح مرفق عام كمرفق الضبط القضائي ، يجب أن تتحمله الجماعة التي اشتغل لصالحها المرفق العام للقضاء ، وبهذا يكون القاضي في فرنسا بعد اجتهاده قد توصل إلى الحكم بمسؤولية الدولة رغم غياب النصوص التي يطبقها بهذا الشأن.
مــــــريــــم نــــور
إرسال تعليق